مقالات

إخشوشنوا فإن النعم لا تدوم

*أخشوشنو فإن النعم لا تدوم*

​لقد كان جنوب لبنان، ومنطقة البقاع، قبل خمسين عامًا، أرضًا خصبة للعلاقات الإنسانية الأصيلة ونمط حياة يتسم بالبساطة والانسجام. كانت الحياة يومًا ما لا تتطلب منا الكثير، بل كانت تقدم لنا كل ما نحتاجه في إطارٍ من الودّ والتكافل. في عالم اليوم الذي يتسارع فيه كل شيء، بات علينا أن نتوقف لحظة لنتأمل في قيمة ما فقدناه، ونتعلم من حكمة الماضي التي تقول: "رحم الله امرئ عرف قدر نفسه".

​الحياة في جنوب لبنان قبل خمسين عامًا: بساطة لا تُنسى

​في تلك الأيام، كانت الحياة في جنوب لبنان وبقاعه قطعة من الجنة. لم تكن المدن تزدحم بالضجيج، ولا كانت الأضواء الساطعة تُخفي جمال السماء. كانت بيوتنا تُبنى من حجارة الأرض، وأسقفها من قرميد أحمر، تمنحنا الدفء في الشتاء وتُلطّف الجو في الصيف. كان يومنا يبدأ مع شروق الشمس وينتهي مع غروبها، فكانت الفلاحون يعملون في حقولهم، والنساء يخبزن الخبز على الصاج، والأطفال يلعبون في الأزقة الترابية بقلوبٍ صافية. [صورة لقرية لبنانية قديمة]

​لم يكن المال هو المقياس الوحيد للسعادة، بل كانت السعادة تكمن في قناعتنا بما نملك. كانت بيوتنا مفتوحة دائمًا للضيوف، وكان الجيران يُشكّلون عائلة واحدة، يتقاسمون الفرح والحزن. كان التكافل الاجتماعي أساسًا في حياتنا، فالجيران يساعدون بعضهم في الحصاد، ويُقدّمون المونة لبعضهم في وقت الحاجة، ويهتمون بكبار السن من دون أن يُطلب منهم ذلك. كان الحب يملأ قلوبنا، وكان السلام يكسو أرواحنا، وكان الإيمان يُغذّي نفوسنا.

​الغاية من وجودنا: الآخرة وعبادة الله

​إنّ معرفة الإنسان لقدر نفسه تبدأ من إدراكه للسبب الذي من أجله خلقه الله. لقد خلقنا الله لعبادته، وطلبًا للآخرة، لا لملذات الدنيا الزائلة. قال تعالى في محكم آياته: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ". إنّ السعي وراء الكمال المادي في الدنيا واللجوء إلى حياة لا يُؤمن فيها الإنسان بحساب أو آخرة، هو سعي وراء سراب.

​إنّ الإيمان بأنّ هذه الحياة هي محطة عابرة، وأنّ نهايتها هي الآخرة، يُجبر الإنسان على إعادة النظر في أولوياته. إنّ السعي وراء المال والثروة والجاه يُؤدي إلى إهمال الجانب الروحي، ويُفقد الإنسان السكينة والاطمئنان. إنّ الحياة الحقيقية ليست في كسب الملايين، بل في كسب رضا الله، وفي بناء علاقات إنسانية صادقة، وفي عيش حياة كريمة لا تُخالف تعاليم السماء.

​الحياة الغربية: ثمنها باهظ

​في عالم اليوم، أصبحت الحياة الغربية نموذجًا يُحتذى به من قِبل الكثيرين. إنها حياة تبدو براقة من الخارج، لكنّها تخفي الكثير من التحديات والمتاعب. إنّ هذا النمط من الحياة يتطلب من الإنسان جهدًا مضاعفًا لتحقيق طموحاته المادية، الأمر الذي يُفقده أهم القيم الإنسانية.

​إنّ من أهم عيوب الحياة الغربية هي تكلفتها الباهظة. إنّ ثمنها ليس فقط ماليًا، بل هو ثمن إنساني. إنّها حياة تُركّز على الفردية، فتُقلّل من العلاقات الأسرية والاجتماعية. إنّها حياة تُعزّز التنافس الشديد، فتُفقد الإنسان السكينة والاطمئنان. إنّها حياة قد تُؤدي إلى الوقوع في المعاصي، فتبعد الإنسان عن ربه وتُفقده روحانيته.

​العودة إلى البساطة: سكينة وبهجة دائمة

​إنّ الحل ليس في أن نعيش في الماضي، بل في أن نعود إلى جوهره. إنّ العودة إلى نمط الحياة البسيط الذي كان يُسود في جنوب لبنان قبل خمسين عامًا، مع مزيج قليل من التكنولوجيا، يُمكن أن يُؤدي إلى حياة أكثر سعادة وسكينة.

​إنّ التكنولوجيا في حدّ ذاتها ليست شرًا، بل هي أداة. استخدامها بحكمة، مثل استخدامها في التواصل مع الأقارب والأصدقاء، أو استخدامها في تسهيل العمل الجسدي، يُمكن أن يُعطينا أفضل ما في العالمين: روحانية الماضي وراحة الحاضر.

​العمل الجسدي: علاج الروح والجسد

​لقد كان العمل الجسدي في الماضي جزءًا لا يتجزأ من حياتنا. إنّ العمل في الحقول، أو بناء البيوت، أو صنع المونة، كان يمنحنا شعورًا بالرضا والانجاز. لقد كانت تلك الأعمال تُغذّي نفوسنا، وتُقوّي أجسادنا، وتُبقينا بعيدين عن الأمراض النفسية التي تُعاني منها أجيال اليوم.

​إنّ العمل الجسدي يُبعدنا عن الكآبة واليأس، ويُساعدنا على مقاومة التوتر والضغوط. إنّ التواصل المباشر مع الأرض والزرع يمنحنا شعورًا بالسلام الداخلي، ويُعيدنا إلى أصولنا. في أوقات الحروب والأزمات، فإنّ القدرة على زراعة الأرض والاعتماد على النفس في إنتاج الغذاء تُشكّل خط دفاع أول ضد أي تحديات.

​أمثلة على حياة الماضي: حكايات من جنوب لبنان والبقاع

​المونة: كانت المونة أساسًا في كل منزل. كانت النساء يجتمعن في نهاية الصيف ليقمن بتحضير المونة، من دبس الرمان والمربيات إلى تجفيف الخضار والفواكه. [صورة للمونة اللبنانية التقليدية]

​التعاون في الحصاد: كانت جميع أفراد القرية يجتمعون في موسم الحصاد، ليعملوا جنبًا إلى جنب. كانت تلك الأيام مليئة بالغناء والضحك، فكانوا ينهون العمل في وقت قصير، ويحتفلون معًا بنتيجة جهدهم.

​المجالس المسائية: في المساء، كانت العائلات تجتمع في ساحة القرية، أو في بيوت بعضها، لتبادل الأحاديث وقصص الماضي. كانت تلك المجالس فرصة لتعميق الروابط الاجتماعية، ولتعلم قيم الاحترام والمحبة من كبار السن.

​إنّ هذه الحياة البسيطة، التي كانت تُركّز على الإنسان وعلاقته بأهله وجيرانه وربه، تُعطينا درسًا مهمًا: إنّ السعادة الحقيقية ليست في ما نملك، بل في ما نحن عليه. إنّها دعوة إلى أن نعود إلى أصولنا، وأن نعرف قدر أنفسنا، وأن نعيش حياة تُرضي الله وتُشبع الروح. فهل نحن على استعداد لذلك؟ و من أجل هذا استشهد الامام الحسين عليه السلام و صبرت فاطمة الزهراء وابوها رسول الله ص في مرضاة الله، و فهم هذا الحقايق اساس لتقويم الأمور.