
في ضروة حماية «الطائف» من المتغيّرات، طراد حمادة، الثلاثاء 11 تشرين الثاني 2025
نحاول في هذه المقاربة أن نجد عناصر حماية تسوية الطائف في تحولات الزمن السياسي، حيث كل شيء يتغيّر ولا يبقى شيء على حاله، لكن قواعد قيام الدول تقتضي البحث عن مشروعية وعقود اجتماعية تحمي قيام الدولة وثبات سيادتها على أرضها وحفاظها على مصالحها وحقوقها وموارد قوتها وصيانة حريتها.
القول إنَّ لبنان ينعم بالاستقرار في محيط إقليمي مضطرب ليس وصفاً للواقع السياسي في حالة سكونيّة راهنة؛ قد تكون مرحلة عابرة، استقرت فيها الموازين على حالها ولا تلبث أن تنقلب إلى حالة مغايرة، مع المستقبل القريب أو البعيد. وعليه، يكون الاستقرار هشاً، لا يرتكز في مقوماته إلى قاعدة وطنيّة صلبة تجعله قادراً على الثبات ومواجهة الأخطار المحدقة به، والعاملة إلى زعزعة هذا الاستقرار. وفي هذه الحال، يبقى القلق على المستقبل قائماً، وتكون البلاد عرضة لعواصف الأيام العاتية، جرّاء اختلال التوازنات الداخلية، أو عصفت من لدن الجهات الخارجية، وتكون التسويات التي أحدثت استقرار الواقع بتسويات مؤقتة، تحمل في قلبها قوى انهيارها.
وقد يشهد لبنان نماذج عدة لهذه التسويات، لم تلبث أن تهاوت في صراعات دورية صنعت موازين جديدة، وانقلبت على غير جهة لتستقر مرة أخرى على تسويات لاحقة متفقة مع موازينها. هذه الحال تقوم على معادلة الصراع والتسوية، وتبادل الأدوار بينهما، يؤدي الصراع إلى تسوية، وتنشأ عن التسوية صراعات جديدة.
هل اتفاقية الطائف تسوية من هذا النوع؟ وعليه يلزم الإقامة على قلق رياح المتغيّرات العاصفة، أو أنها تصلح للتكيّف مع التعايش الوطني وتصنع مواطنية حقيقية قادرة على إنتاج آلية مقصورة تصنع الحلول النافعة للمشكلات على قدر حيويتها في الحفاظ على البيئة الوطنية واستقرارها.
لعلّ اتفاقية الطائف من أكثر التسويات السياسيّة قدرة على صناعة الحلول، لمشكلات الحاضر ومتغيّراتها الطبيعية في المستقبل، لكنها تحتاج لاحتلال هذه الدينامية الوطنية إلى فعل المقاومة، لضمان فعالية عناصر قوة الاستقرار اللبناني وفعالية وفاقه الوطني.
كيف ذلك؟ اتفاقية الطائف تملك فعالية التسوية السياسية الداخلية، لأنها تحققت لبناء توازن وطني، يسمح بإدارة الأزمات الداخلية التي تواجه لبنان على المستوى السياسي، في بناء الدولة وتداول السلطات، وكذلك استمرار فعالية النظم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وتطورها وفق مسارها الطبيعي، وتكون قادرة كذلك على إقامة التسوية على المشكلات ذات المنشأ اللبناني الداخلي، والذي تنظمه عادة المواثيق والدساتير والأعراف وتقاليد الحكم في الأوطان المستقلة والدول المعتبرة. ولبنان، في نظرنا، يدخل في دائرة هذه الدول. الكيان والدولة ووحدة الشعب والأرض فيه غير قابلة للإلغاء، ولا الفوضى، ولا الفشل والذوبان، وهي جديرة بالحياة.
لعلّ اتفاقية الطائف من أكثر التسويات السياسيّة قدرة على صناعة الحلول، لمشكلات الحاضر ومتغيّراتها الطبيعية في المستقبل، لكنها تحتاج لاحتلال هذه الدينامية الوطنية إلى فعل المقاومة
القلق على الاستقرار اللبناني يستمر قائماً من التحديات الخارجية، وفي مقدمتها تحديان معاصران:
- العدوانيّة الصهيونيّة: في دولة إسرائيل المغتصبة لفلسطين والقدس وذات الأطماع في لبنان، والتي لا تريد له أن ينعم بالقوة والمناعة والاستقرار.
- تحدي غزوات الإرهاب التكفيري والذي يضع لبنان في دائرة مشروعه الإرهابي في المشرق العربي وخاصة بلاد الشام.
في مواجهة تحديات عدوان الصهاينة، وإرهاب التكفيريين، يحتاج لبنان إلى فعل المقاومة. ليس من الناحية العسكرية المحضة وحسب، ولكن من ناحية مدلولات هذا الفعل في بناء المناعة الوطنيّة، وبناء يسدّ الرياح الخطرة العاصفة من جهات الأرض حولنا، والدليل على ما نقول في نظر الفلسفة السياسية يقوم على ما يأتي:
1) إن الاستراتيجيات الدفاعية في أبعادها المختلفة، تقوم ليس على صدّ أهواء الداخل بل على مدّ رياح الخارج وردّ هجماته الطامعة إلى تخريب عناصر الاستقرار الداخلي. إن هذه الحقيقة الواقعيّة تقوم بدور المقدمة للوصول إلى المحصلة المنطقية العالية.
2) المقاومة، كعنصر طبيعي لدفاع الكيان الإنساني الاجتماعي، أو الطبيعي، عن نفسه. إنّ منزلاً بلا سقف ولا جدران، جميل الأثاث، متوازن حركة الأبعاد، لا يأمن أن تذهب الريح العاصفة بكل محتوياته وتخرب محتوياته وتخرب نظامه. وكلما كانت الدفاعات متينة والعمارة صلبة البنيان، استقر داخلها على سلامة الحال.
وعليه، فإن ثبات التسويات السياسية الداخلية، وهي وظيفة الطائف على ما ذكرنا، تحتاج بلا شك إلى ضامن لها، وهذا الضامن، الحافظ، المحيط بحماية البناء، هو اللاعب القوي في ثبات الاستقرار السياسي، واستمراريته، وهو نازع الشعور بالخوف والقلق من أحداث المستقبل.
إنّ أهم دليل على هذا الدور في الدفاع الاستراتيجي كعامل قوة، رادع حافظ، ثابت البنيان، مستفاد من الأحداث التاريخية نفسها وما الذي تحتاجه حين تعصف رياح الأطماع والأهواء في محيط البلدان والدول وتعمل على خرابها.
الاستقرار اللبناني ثابت وقوي، وفعل المقاومة قادر على حفظه وصونه والدفاع عنه وردع العدوان عليه. وهذه القوة لا تأتي من الخارج، لأن الخارج يفعل ما يقر من مصالحه. لا تأتي القوة من خارج الذات بل من داخلها، ولا تتكسب القوة بالضعف والوهن وطلب العون عند الحاجة من الأصدقاء والحلفاء، أو النأي بالنفس عن مواجهة حقائق المشكلات، كما شاعت أفكار سابقة دفع لبنان من جرائها أكلافاً قاسية ربما كانت على الدوام وراء زعزعة استقراره وفرض تسويات لا يستقر عليها حاله ولا يهنأ فيه المعاش.
إن الاستقرار الذي نتحدّث عنه قويّ، متين الجذور، مستمد من قوة عناصر قيامة الوفاق الوطني وقدرته على مقاومة أطماع الأعداء وغزوات الإرهاب من الحرابة الفاسدين في الأرض. طالما لفتني في اللغة هذا الجزء المشترك بين التسوية والسويّ، والدلالة فيهما على العدل والاستقامة، وبين المقاومة والقيام، والدلالة فيهما على الحضور، والثبات والتمكّن في المكان، وفيه كل إشارة الجدارة بالحياة.
* كاتب ووزير سابق
