المقالة الأسبوعية

في قانون المفاوضات

الجمعة 29 آب 2025

الدولة اللبنانية صاحبة السيادة، بيدها قرار الحرب والسلم، تفاوض حول تسوية سياسية للحرب المستدامة بين لبنان والعدو، منذ احتلال فلسطين حتى وقف إطلاق النار في تشرين الثاني 2024، وتدخل في هذا المسار مجموعة من القرارات والتسويات الدولية:

من اتفاقية الهدنة في 23 آذار 1949، إلى القرارين 425 و242، واتفاقية القاهرة في 23 تشرين الثاني/نوفمبر 1969، واتفاقية 17 أيار، واتفاقية 17 نيسان 1983، والقرار 1701 بعد انتصار حرب تموز 2006 (والذي حفظ الاستقرار وحمى البلاد لعقدين من الزمان وأمّن ترسيم الحدود البحرية والحفاظ على ثروات لبنان)، والقرار الأخير في وقف إطلاق النار 2024، إلى ورقة برّاك الأولى والثانية والثالثة، الأصلية والمعدّلة.

وعليه: كيف تتصرّف الدولة اللبنانية، ذات السيادة، في إدارة المفاوضات ذات البعد الوطني المصيري والوجودي؟

يضاف إلى مسار هذه، تلك القرارات المرتبطة بالصراع العربي الصهيوني، وذات الصلة القوية بتاريخ الكيان اللبناني ونظام دولته ذات السيادة، من استقلال البلاد إلى اليوم. وأكثر هذه القرارات والأحداث كانت قبل نشوء حزب الله وشاركت فيها قوى محلية وكيانات وطنية، تطالب اليوم بسلاح حزب الله وتنسى أسباب وجود هذا السلاح.

وتنسى أن ضرورة هذه الأسباب لا تزال على حالها، ولن تجد دولة السيادة بديلاً لها والمنطقة مشتعلة بكل الحروب، ومنها الحرب في لبنان التي لم تخمد نارها. إلى جانب ما ترك هذا الصراع مع الكيان المحتل لفلسطين من آثار على الوضع الداخلي والنظام السياسي اللبناني في كل الميادين، السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والثقافية والإعلامية، وعلاقات المكوّنات اللبنانية بالنظام الديمقراطي، وما جرّت من حروب أهلية موسمية منذ استقالة بشارة الخوري إلى اتفاقية الطائف.

وكان خضوع لبنان لنفوذ ومطامع الدول الكبرى يقوم على أمرين: جوار لبنان مع فلسطين، وضرورة تأمين الأمن الإسرائيلي، وكذلك فتح الباب للأطماع الصهيونية وعدوانية كيان الاحتلال في حروب متتالية استمرّت على مراحل متقاربة من حرب 1948 إلى حرب 2024.

وكان للدول العربية نفوذها الذي تناوبت عليه كل من مصر أيام الرئيس جمال عبد الناصر، والسعودية، وغيرهما من الدول العربية. وكانت سوريا الدولة الشقيق التوأم للبنان هي الأكثر اهتماماً.

وكذلك الفلسطينون الذين وجدوا في لبنان مكاناً للمقاومة ومنبراً للسياسة والإعلام ووجدوا في الحركة الوطنية، وفي دار الإفتاء، وفي طرابلس في الشمال، ومناطق في البقاع الغربي وراشيا وأرض العرقوب التي عُرفت بـ«فتح لاند»، وكان الجنوب اللبناني الأرض التي تظهر فيها هذه المعادلات الداخلية.

وجاء دور الشيعة متأخراً على مستوى الصلة المباشرة بقرار الأحداث مع حركة الإمام المغيّب السيد موسى الصدر وإنشاء «أفواج المقاومة اللبنانية» (أمل) حتى تمّ خطف الإمام وفُقد مصيره ولا يزال. وحكي عن اشتراك دول عدة في مؤامرة خطفه ومأساة تغييبه ورفيقيه.

إن الجنوب اللبناني وجبل عامل مسكن الشيعة وحاضرتهم المقدّسة، هما الهدف الأول للعدو الصهيوني والميدان الأساسي للصراع معه، وقد دفع أهل الجنوب من حياتهم ورزقهم تضحيات عظيمة قلّ نظيرها على امتداد ما يقارب القرن من الزمان.

حصل الاحتلال الكبير لجنوب لبنان والجبل والبقاع الغربي والعاصمة بيروت نتيجة للحرب مع منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية، والتي أدّت إلى خروج قوات منظمة التحرير من لبنان، وكذلك تراجع الحركة الوطنية اللبنانية لصالح قوات الجبهة اللبنانية التي استفادت من الاحتلال وقامت بمجازر صبرا وشاتيلا، ومن ثم اتفاقية السابع عشر من أيار. وبعدها حدث ما حدث وعادت سوريا بقوة إلى حكم لبنان ثم حصل اتفاق الطائف، وكان في الواقع صورة عن موازين قوى شارك في تحديدها النفوذ الفرنسي والأميركي والسعودي والسوري لكن لصالح برنامج دار الإفتاء ودعم سعودي ومشاركة شيعية معتدلة ومساندة فرنسية وقبول للقوى المسيحية ولو على مضض، لكنه مرّ وصار عند جميع هذه القوى دستوراً للبلاد.

في اختصار، يستفاد من هذا التاريخ أن مسألة الحرب والسلام والعلاقة بالصراع العربي الصهيوني، ومشكلة احتلال فلسطين، أمر يتعلّق بتاريخ لبنان وموقعه الجيوسياسي، وكذلك يتعلّق بحركة القوى السياسية اللبنانية ممثّلة للمكوّنات الاجتماعية والدينية في العلاقة مع هذا التاريخ الواقعي. وعليه، فإن المقاومة والسلاح في لبنان ليسا وليد انطلاقة حزب الله وحسب، بل هما في أصل وجود البلد والحروب التي شُنّت عليه، وفي أصل تاريخ المقاومة المتعددة التيارات، الفلسطينية والوطنية اليسارية اللبنانية والمسيحية اللبنانية اليمينية ــــــ إذا ما استعرنا عبارات تلك المرحلة.

وأغلب أهل الحل والعقد من الجيل عاشوا هذه الأحداث، ومنهم رئيس الحكومة الحالي نواف سلام وبعض وزرائها. ولذلك نعرف أن المسألة اللبنانية هي لصيقة الصلة بما حدث في فلسطين المحتلة وفي أطماع الحركة الصهيونية وفي حركة الشعب الفلسطيني وأنصاره من الوطنيين اللبنانيين والعرب وفي تطوّر حركة الصراع العربي الصهيوني. وهذا ما حمل ياسر عرفات للقول إنه شريك في القرار 340 لأن قواته الفلسطينية اشتركت في حرب 1973 من جنوب لبنان.

* كاتب ووزير سابق