لا خلاف أنّ المجلات الثّقافية مؤشر من مؤشرات رقي المجتمعات وتقدمها، والاهتمام بها يعني الاهتمام بخلق الوعي العام الذي هو دعامة أساس من دعائم التحضر والمدنية. ولهذا يغدو وجودها دليلاً على أنّ الثقافة ليست مكملاً من مكملات الحياة العصرية، إنما هي ركن من الأركان المجتمعية، ينبغي أن يُحسب لها كلُّ الحساب.
وغياب المجلات أو عدم الاهتمام بها يعني انثلامّاً في الكيان الثقافي للمجتمع برمته، لا يمكن سدُّه ولا إصلاحه أو التعويض عنه بأي وسائل أخرى.
وهذا ما تؤكده سوسيولوجيا الثقافة وعلاقتها بالبنيات المجتمعية، التي ترى أنّ المجلات مظهر ثقافي مهم للمجتمع، ومنفذ من منافذ المعرفة التي بها يتقوى الوعي ويصبح أكثر عمقاً وتحصناً، نظراً لما تغرسه في نفوس القراء من رؤى اجتماعية وجمالية وفكرية، تجعل منهم متفاعلين ومنتجين.
ولا غرو أن المجلات الثقافية تستطيع أن تنمي المجتمع سوسيولوجياً واضعة الحلول لمشكلاته، ومشخِّصة عيوبه، ودافعة به نحو الارتقاء والتقدم، وهو ما لا تستطيعه المجلات التي تعكس أرستقراطية الثقافة ومظاهرها البراقة التي لا تهتم بالجمهور القارئ، ولذلك يظلُّ انتشارها محدداً بالنخبة.
وما يعانيه مجتمعنا العربي من الافتقار إلى المجلات الثقافية، له أسبابه، وأغلب تلك الأسباب مادية. علماً بأن الاستثمار الرمزي للثقافة هو الذي يمهد الطريق أمام الاستثمار المادي. وليس هذا القول من قبيل الطوباويات، بل هو أمر تأكد وبات من المسلمات، أدركته المجتمعات المتقدمة، واستوعبت دروسه، فجعلتْ الثقافة في مقدمة أولوياتها حتى صارت ذات شأن حقيقي يضاهي أي شأن من شؤون الحياة المادية العامة، بعكس المجتمعات الفتية والنامية والفقيرة التي ما زالت تتصور أن الثقافة ليست هي الحياة نفسها، والتي غابت عن قواميسها مقولة «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»، لذا هي سريعة الأزمات، وفي حالة مستمرة من الاصطراع والاحتراب، وضعف الوعي الذي لا سبيل لتقويته ودعمه سوى بالثقافة.
ومن سبل نشر الثقافة الكتب والصحف اليومية والأسبوعية والدوريات المختلفة، لكن المجلات تظل في المقدمة؛ أولاً سرعة انتشارها، وثانياً وجود التنويع الذي يلائم مختلف مستويات القراء وتوجهاتهم وإمكانياتهم المادية، وثالثاً قدرتها على مواكبة التسارع في عالم الفكر، ورابعاً سهولة تسويقها وسرعة انتشارها في مختلف البلدان، وخامساً أن قراءة المجلة لا تتطلب من القارئ وقتاً طويلاً كالذي تتطلبه قراءة الكتاب.
وإذا كان الحال المثالي الذي ينبغي أن تشهده أي حياة عصرية هو صناعة مجتمع واعٍ تترسخ فيه قيم الجمال؛ فإنَّ الواقع الثقافي العربي الراهن يخالف ذلك تماماً للأسف. ليظل الحال المثالي مجرد تطلع يسكن أذهان المثقفين، وما من سبيل إلى تحقيقه، ما دمنا غير واعين لأهمية الثقافة في ترسيخ الوعي الذي به يَصنعُ الإنسان ذاته.
ولو عدنا إلى الواقع الثقافي أبان خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن العشرين، لوجدنا أن المجلات الثقافية كانت فاعلة متوفرة وتصدر بانتظام، وبموضوعات حيوية ومستجدة يكتبها أدباء ومثقفون صاروا فيما بعد من أقطاب الثقافة العربية وروادها. ومثالنا على ذلك مجلات «الأديب» و«الآداب» و«الرسالة» و«الثقافة» و«الفكر المعاصر» و«الهلال» و«الطليعة» و«فصول» و«الثقافة الأجنبية» و«المورد» و«شعر» و«حوار» و«المعرفة». وبعضها ظل محافظاً على مكانته النوعية كمجلة «فصول» و«الفكر المعاصر».
وأغلب هذه المجلات تولى إدارتها ورئاسة تحريرها مثقفون واعون وأدباء مرموقون. والمدهش أن هذه المجلات كانت تصل إلى عواصم المدن العربية في الشهر ذاته، وربما الأسبوع الذي تصدر فيه، ولذلك كان القراء يترقبون صدروها كل شهر. وبسبب الوفرة والانتظام والجدة والاحتراف، حققت هذه المجلات رواجاً كبيراً وسمعة طيبة جعلت الكتّاب يتبارون من أجل الظفر بالنشر فيها لا لشيء سوى إشاعة الثقافة.
ومنذ الثمانينيات أخذنا نشهد تراجعاً تدريجياً في واقع هذه المجلات، فلم تعد تصل إلى كل البلدان، وغابت عنها الوفرة والانتظام باستثناء القليل الذي استطاع أن يظل صامداً أمام عوامل التراجع. وفي العقدين الأخيرين من هذه الألفية أخذ بعض المتبقي من تلك المجلات يصيبه التقشف، وينال منه الركود، فتقلصت الأعداد والأحجام والأبواب، وبعضها غاب عن الصدور، كما حصل مع المجلات العراقية. ورغم ظهور مجلات جديدة رسمية وغير رسمية ورقية وإلكترونية، إلا أنها لم تستطعْ أن تسدَّ فراغ تلك المجلات الرصينة، فضلاً عن أنها لم تسلم أصلاً من التراجع الذي يعتري المشهد الثقافي العربي الراهن.
ولا يخفى أن وراء انتشار المجلات مردوداً مادياً هو بمثابة استثمار ثقافي لرأسمال رمزي، تعضد فاعليته الشبكة العنكبوتية بإمكاناتها التكنولوجية الهائلة التي إذا استثمرتْ بشكل فاعل حققت للمجلات رواجاً عند عموم القراء، ملبية حاجة الطالب والموظف والمتقاعد والشاب والطفل والمرأة.
فلماذا لا نجد مثل هذا الاستثمار الرمزي للثقافة في صورة مجلات ثقافية عربية، تجمع مثقفي الوطن العربي وأدباءه تحت مظلة معرفية واحدة؟ أهو نقصان الموارد الإبداعية والثقافية والمادية، علماً بأننا نشهد كل يوم تأسيس مجلة جامعية جديدة بترقيم دولي وإمكانيات أكاديمية ودعم مؤسساتي؟ وهل سيكون وراء قلة عدد المجلات الورقية وتزايد المجلات الإلكترونية عبء ثقافي سببه عزوف القراء عن متاحات الوسائط المتعددة التي تجعل القارئ ينفر عنها، إما لأنه لا يعرف تكنولوجيتها أو يعرفها ولكن لا يُتقنها؟
أليستْ المجلات تعبيراً عن وحدة عربية في التلقي الثقافي والتفاعل الفكري؟ ومن الذي له المصلحة في أن تنتكس المجلات العربية التي كانت بالأمس نشطة ومميزة؟ وما المانع من أن تسهم المؤسسات الرسمية المعنية بالثقافة والتعليم والمنظمات والهيئات والمراكز الثقافية غير الرسمية في الخروج من هذه الظاهرة، ووضع الحلول وإيجاد سبل حقيقية، بها تنتعش المجلات من جديد ليعود لها بهاؤها الغابر الذي عفت عليه سنون مضت؟
لا أعتقد أنَّ الأسباب سياسية أو فكرية، كما أنها ليست مادية، فلقد صدرت مجلات مصرية في وقت كان فيه هذا البلد يمر بمحنة الحرب العالمية الثانية والتحديات المصيرية التي تلتها. والأمر نفسه مع مجلات في بلدان عربية أخرى.
وإذا لم يكن السبب مادياً ولا سياسياً؛ فإنه بالتأكيد ثقافي ومعضلة المجلات معضلة ثقافية، وكثير من المجلات الموجودة اليوم لا تعنيها مسألة مخاطبة القارئ العربي، واستنهاض وعيه إزاء مشكلاته الثقافية، فضلاً عن عدم وجود خطط منهجية توحد عمليات النشر الورقي والإلكتروني لهذه المجلات، مع انقطاع التواصل بين المجلات الثقافية العامة والمجلات الجامعية المتخصصة.
من هنا يغدو مهماً العمل على إصدار مجلات تُعنى بالثقافة، تعيد للمشهد الثقافي العربي ماضيه المزدهر، وتسترد الحال والمآل الذي كانت عليهما مجلات الأمس العربية، ليكون لها شأنها في واقعنا الثقافي الذي هو بأمس الحاجة إلى مواكبة الجديد في حركة الفكر العالمي.
وليس أمام القارئ الحريص على التثقف الذي يريد أن ينجو من العمى الثقافي، الذي تسببه وسائل التواصل الاجتماعي، ويتحصن من تبعات الإعلام الموجه والمؤدلج، ويقاوم عولمة التكنولوجيا، سوى الارتكان إلى الثقافة النوعية التي تمثلها المجلات المتخصصة التي تحصن الوعي وترصنه، مزيلة حالة اللامبالاة والخدر التي يمر بها القارئ العربي اليوم.
إن ما نريده لمشهدنا الثقافي العربي هو مجلات تسير باتجاه جديد لا تكسبي، وبعلاقات عضوية مع القراء، ليست فيها برجوازية قرائية ولا أرستقراطية ثقافية، كي تكون متاحة بيسر لمختلف القراء، وقد استثمرت البعدين التقني والثقافي متمتعة بروح العصر ومعبرة عن همومنا الثقافية الذاتية والجماعية منفتحة على الآخر، بلا خشية ولا توجس. هذه أفكار عامة، وفي الذهن تصورات ورؤى أخرى لسد العوز الثقافي العربي، تحمل طابعاً حراً يزيل الحدود ويتقبل الآخر وجودياً جدلياً.
ولا ننكر هنا الدور الفكري والثقافي الفاعل الذي تقوم به بعض الجرائد والمجلات الصادرة في عواصم أوروبية. هذا الدور الذي ينعش في نفوسنا بعض الأمل في إمكانية استعادة مجلاتنا لدورها المشرِّف الذي كانت قد مارسته بالأمس.
د. نادية هناوي