دور الثقافة في صناعة التاريخ... إشكالية النفس والعقل
طراد حمادة
لم تعد الوقائع والحوادث صالحة للفصل بين الأعوام. يكتسب الزمن فعل الديمومة، ويكون المستقبل صيرورة الحاضر لكن بلا حتمية تاريخية ولا ضرورة طبيعية، قوانين التاريخ لا تشكل قوانين الطبيعة وليست قواعد الفيزياء بسارية المفعول في حقل الميتافيزياء. وإن صنع الإنسان في أفعاله الرابط بين العلة والمعلول، وجعل من الطبيعة ما وراءها إذ يجد في صناعته لواقعه والأشياء المحيطة به صناعته لنفسه، ككائن عاقل، يشغل عقله في اختيار أفعاله، ويكون مريدا لها ومسئولا عنها، ثم إذا أراد أن يبعدها عنه، نسبها إلى التاريخ أو نسبها إلى القضاء والقدر، ولكن لا مناص له، وحتى عند أهل الجبر من أن يكون محلا أو ظرفا لأفعاله، وله عند غيرهم مجال كسب الأفعال إذا ما انتزع منه القول بخلعها أو كان في منزلةٍ بين المنزلتين، وفي تراث المعتزلة أنه لا يوجد لفعلٍ فاعلان وعليه تقع مسئوليّة الأعمال على أصحابها من الخلق.
وأكثر ما يشغل فلاسفة التاريخ، القول بالضرورة والحتمية، وإن ذهب قبلهم أهل الاعتزال، بنسب الأفعال في جانب منها إلى ظروفها التاريخية لكن من دون حتمية ولا ضرورة، بل حرية واختيار ليستقيم الحساب على الأفعال مع حقائق العدل الإلهي، واختيار الأصلح للناس:
في نهاية كل عام يُجري الإنسان لنفسه جردة حساب. بين قائلٍ فعلت واخترت وأردت، وبين قائلٍ كتب لي وأجبرت وذلك كان نصيبي وكانت قسمتي وأقداري، وقائل فعلَ التاريخ ما فعل، وإذا فاتني أن أحقق الأصلح في ما مضى من الأيام، فإن المستقبل ساحة مفتوحة للفعل، ولكن كيف أتخلص من مكر التاريخ ومن خداعه؟ وكيف أطابق بين إرادته وإرادتي؟ وأين لي مكرهُ وخداعَهُ؟ ومن أين لي أن أجلب لنفسي حريتها ونجاتها على السواء؟
قاوم الإنسان مكر التاريخ بمكر العقل. وكان بصيغته الوجودية ككائنٍ عاقلٍ يحاول أن يصنع تاريخه لكن مشكلة العقلانيين مع العقل أنهم أساءوا استخدامه واصطنعوا له من أنفسهم عدوا، ثم طالبوه بتحقيق النجاة في العالمين، وكان المعري قد أشار في لزومياته الى نعمة العقل ونقمة النفس ومن قبِلهِ نسب إخوان الصفاء للنفس دورا مشابها، ثم قدر محيي الدين بن عربي أن الشر من صناعة النفس اللوامة ومن السنن الإلهية أنه لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وهكذا أُلحقت مسئولية الأعمال بوسوسة النفس، عندما تغلب فيها الطبائع النباتية والحيوانية، على طبيعتها الإنسانية العاقلة.
وإذا كانت النفس واحدة على تعدد قواها، فإنها تصنع حياتها أو تاريخها بإقامة ميزان قوى معدل بين قواها المتعددة، وهي تحكم على مصيرها من نسبة قدرتها على إقامة هذا التوازن، وإذا كان وجود النفوس يكون وجودا متشخصا وبذلك ذهب الشيخ الرئيس (ابن سينا) إلى القول إن النفس هي الشخص منك على الحقيقة، فإن ذلك لا يمنع من القول بوجود نفس جامعة أو نفس للجماعة.
كما يمكن القول بوجود عقل جامع أو عقل للجماعة، يطلق عليه الفلاسفة المعاصرون المصطلح الذي نحته العلامة الفرنسي أندريه لالاند A. LALANDE بالعقل المكوّن مقابل العقل المتكوِّن الذي يعني في ما يعنيه الإنتاج الإنساني أو الثقافة المتحصلة والمتكونة لشعبٍ من الشعوب في مرحلةٍ تاريخيَّةٍ معينة.
ما طبيعة العقل المتكوّن في بداية هذه الألفية الثالثة؟ وما هي ميزات الثقافة المعاصرة؟ وهل يوجد ما يمكن أن يوصف «بنفس العالم» أو العقل العالمي السائد والمهيمن؟ وهل يكون هذا العقل صانعا للتاريخ أو خادما له؟
إن مراقبة الثقافة الإنسانية المعاصرة تتحقق من خلال معرفة إنتاجها في الحقول المتعددة. إن الشجرة تُعرف من ثمارها فإذا كانت الشجرة طيبة أعطت ثمرا طيبا وأكلا لذيذا، ولكن ما أدراك ما تعطيه الشجرة الخبيثة؟ وكيف لنا أن نميّز الطيب من الخبيث في عالم الاستهلاك المقيت الذي يجعل من ثقافته بضاعة مقيتة مذاقها مرّ وغذاؤها مضر؟
هل يمكن الفصل بين حوادث العالم ووقائعه، كما يجري في منطقتنا وبقية المناطق المنكوبة بالظلم والظالمين، والغزاة المحاربين، والسياسيين الطامعين، والتجار الجشعين، والإعلام الكاذب، والثقافة البليدة السطحية التابعة؟ ولماذا نتذكر كل هذه الصفات في عالم اليوم، مع بداية كل عام، ولا توجد محكمة من رادع ولا وازع من ضمير؟ وأين تذهب بنا ثقافة «نفس العالم» وكأن عالمنا لا عقل له؟!
لا يضير الفلسفة أن تصنع أجوبتها على هذه الأسئلة القلقة ولكن عصر الفلاسفة إلى ذبول وهو يترك مكانه لصنّاع القرار في أروقة الاستراتيجيات وحوانيت التجار، ومكاتب المستشارين وليس بين هذه الأماكن من فيلسوف واحد، يشهر قوله للوصول إلى الحقيقة التي من أصولها الدوران مع الحق ومجافاة الباطل، ومقاومة السفسطة، والنظر إلى التاريخ كمسار خلاق لممارسة الحرية، ومتابعة مسارها المتطابق مع المسار التاريخي والمتصالح معه، وهو فيما هو جزء من حركة الزمان بين اللحظة والدهر، تجلٍّ من تجليات الحق في الخلق...
التاريخ مرآة التجلي، وحين ينظر الإنسان في مرآة تاريخه يشاهد نفسه، ويكون عليه أن ينظر في مرآة نفسه. إن لعبة النظر والمرآة حكاية النفس في معرفة ذاتها، وتلك معرفة سبق لابن سينا أن وصفها بالمرقاة. والترقي إلى الحق، عملية دائبة في النظر إلى النفس في مرآة أفعالها...
هل ينظر العالم إلى مرآة نفسه ويشاهد مع نهاية كل عام ميلادي حصيلة ما فعل؟ وهل تكون هذه المراقبة فعل شهود وحضور في التاريخ لا هروبا منه ونعته بالمكر والخداع وتحميله من أفعال الإنسان ما لا يطاق؟ ولماذا لا ينظر المثقفون إلى مرآة العالم ويشاهدوا ما صنعوا وما صنع الآخرون ويكون عليهم ولهم أن يصدروا الأحكام القيمية وأن يحاسب (نفس العالم) على ما صنعته في الساحة التاريخية؟ ثم يكتشفون أن المستقبل لايزال قابلا لفعل التغيير إذا ما غيروا ما بأنفسهم، واختاروا ما اختار الحق من الصلاح للخلق.
إن دور المثقفين العرب والمسلمين ليس في ذم التاريخ بقدر ما يقوم على صناعته، بلا حتمية ولا ضرورة ولا جبرية، ولكن بكل إرادة واختيار وحرية، وعند ذلك يعرفون ماذا يصنعون، وأي مستقبل ينتظرون..
العدد 488 - الثلثاء 06 يناير 2004م الموافق 13 ذي القعدة 1424هـ