النيران الإسرائيلية تؤجّج ذاكرة تموز 2006
سعدى علوه
كنّا نظنّ، نحن الذين عايشنا العدوان الإسرائيلي في 2006، وكتبنا قصص الناس وأوجاعهم وفقدهم وإصابتهن وحكايا صمودهم، أنّنا شهدنا على إجرام إسرائيلي غير مسبوق. لكن جاءت حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي تشنّها إسرائيل على غزّة لتقول لنا العكس، وتؤجّج ذاكرتنا وذاكرة الجنوبيين التي لم تختف يومًا بل تراهم يروونها لأبنائهم وأحفادهم اليوم وهم يتماهون مع القطاع وأهله. وهم لا ينسون أن يختموا أحاديثهم بجملة يُجمعون عليها “مصابهم نسّانا مصابنا”، فهم أكثر من غيرهم يشعرون بهم، بغزة وأهلها، بمصابهم ويُتمهم ونزوحهم والإجرام غير المسبوق الذي ترتكبه إسرائيل بحقهم وسط تواطؤ الشمال السياسي.
كلّ هذا دفعني إلى البحث عمّن قابلتهم في 2006 وكنت صحافية في جريدة السفير آنذاك، عن حَاجّات القرى اللواتي كتبت عنهن ودورهنّ في الاهتمام بمن قرّروا البقاء تحت العدوان، عن رباب، مدرّسة اللغة العربية التي نشرتُ لها يومها قصيدة كتبتها لطفلتها زينب التي استشهدت في مجزرة قانا الثانية، وعن طفلها حسن الذي كاد أن يُدفن حيًّا في الرابعة من عمره لأنّ المسعفين ظنّوه ميتًا بينما كان فاقدًا قدرته على الحركة. وعن فاطمة مواسي التي التقيتها بعدما حوصرت مع 80 شخصًا في عيترون في قبو لا يتّسع لأكثر من عشرين، وأخرجهم الصليب الأحمر في اليوم 23 للعدوان سيرًا إلى بنت جبيل، منهكين بالكاد تحملهم أرجلهم.
عثرت على رباب وحسن وفاطمة دون الأخريات: أم خليل حاجّة رُبّ تلاتين التي بقيت 33 يومًا، هي كامل عدوان تموز 2006، تنام والسكين تحت وسادتها “إذا بيجي الإسرائيلي بدي إنحره” كما قالت لي. ماتت أم خليل قبل عامين، هي التي أكملت سبعينها في عدوان 2006. أما حاجّة العديسة، أم حسن، التي قضت العدوان تهتمّ بمن صمدوا في بلدتها، فقد غادرت هذه الدنيا قبل عام من رحيل أم خليل. لكن حسرتي جاءت أكبر عندما أخبرني ناصر، ابن أم عماد، حاجّة مركبا، أنّها تركت هذا العالم قبل 12 يومًا من اليوم فقط. قلت ربما كان عليّ أن أبحث عنها قبلًا. كنت أظنّ أم عماد ما زالت حيّة حيث أنّها كانت في الخمسين من عمرها في عدوان 2006. يومها قضت 33 يومًا في مركبا تهتم بـ 75 نفرًا بينهم 35 من الأشخاص ذوي الإعاقة و20 مسنًّا فيما توزّع البقية على نساء وأطفال. نقلت أم عماد في عدوان تموز مؤونتها كلّها إلى جزء من القبو الذي يحتوي على ماعزها وهناك اختبأت من القصف مع الآخرين. كانت تخبز “يوم بعد يوم”، كما قالت لي يومها “17 عدّة” (والعدّة 10 أرغفة) وتدور على من بقي في القرية وتضع الخبز أمام بيوتهم وتعود بما يكفي سكان قبوها. طبختْ كلّ شيء حتى “الكبة بلبن”، حلبت ماعزها وصنعت اللبن واللبنة والجبنة “وصرفت تنكتي زيت زيتون يا سعدى بالعدوان، ما جعنا ولا نهار، المونة بالضيع بتستر”…رحلت أم عماد إثر تدهور صحّة قلبها في مركبا خلال العدوان الحالي وهي على حالها “ما قبلت تتوه ع بيروت، ترجّيناها وقلنالها إنت مريضة، قالت له ما بدي روح، بدي موت بمركبا، وبدي كفّي اهتم باللي بقيوا”. بقي من بقي في مركبا وماتت أم عماد في ثاني يوم الهدنة “انبسطت كتير لمّن رجعوا أولادها الـ 12 مع أحفادها ع الضيعة بالهدنة، ودّعتهم كلّهم ونامت في تراب مركبا التي لم تغادرها يومًا إلّا لزيارة الطبيب.
منذ مجزرة قانا الثانية، أي قبل 17 عامًا ونيّف، لم أرَ رباب وابنها حسن اللذيْن كنتُ قابلتهما في تموز 2006 في مستشفى جبل عامل في صور حيث خضع حسن لعملية في رأسه. أواخر شهر تشرين الثاني، زرت منزل العائلة الكائن على بُعد أمتار من قبو مجزرة قانا الثانية في حيّ الخريبة، ويبعُد عن منزلها 15 مترًا، القبو نفسه حيث لجأت مع عائلتها وعشرات الأشخاص للاحتماء فيه من نيران العدوان الذي كان الأعنف في تاريخ الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان قبل غزة.
كانت إصابة حسن في الرأس بليغة، وقد ترددت في سؤال رباب عنه بداية خوفا من أن تكون قد تركت ضررًا عليه وذيول صحّية قد تعيقه. وارتحتُ كثيرا حين ندهت عليه تطلب منه تلقيم ركوة القهوة، وسألتها إذّاك إن كان يتذكّر كلّ ما حصل. جاء صوت حسن من مدخل البيت نحونا وبين يديه صينية القهوة: “بتذكّر كلّ شي”.
نظرت إليه، وفي ذاكرتي صورة ذلك الطفل الصغير معصوب الرأس إثر العملية التي خضع لها. قلت أمازحه وكأنّ 17 عامًا لم تمرّ بنا: “كيف صار راسك؟”، ضحك وقال “شوية كهربا تركهم الإجرام الإسرائيلي براسي. بس ماشي الحال بالدوا، لأنّها خفيفة أساسًا”.
أنهى حسن دراسته الجامعية ودخل سوق العمل لمساعدة عائلته بعدما تركت رباب التدريس. “ماذا تتذكر يا حسن؟” سألته. “كلّ شي رجع لي لمّن بلّشت بغزة.. أنا كمان أمي كتبت لي إسمي ع بطني مع رقم تلفونها لمّن انصبت”. بعد أن نقل المسعفون حسن إلى غرفة جثامين الشهداء ظنًا منهم أنّه استشهد أيضًا، تاه عن أمه إلى أن عثرت عليه رباب ونُقلا مع والده إلى المستشفى في صور. هناك، وقبل أن يمدّ أيّ ممرّض يده على حسن، طلبت قلم خطّ عريض وخطّت اسمه الثلاثي مع رقم هاتفها على بطنه “كتير تأثرت لمّن شفتهم بغزة عم يكتبوا أسماء أولادهم ع أجسادهم، وبالوقت نفسه حسّيت إني شاركتهم كتير إشيا، المجزرة وكتابة الإسم وخسارة أختي زينب وأصدقاء طفولتي”، يقول حسن.
كان في قبو قانا 19 طفلًا وطفلة تحت العاشرة من العمر، وكان حسن وزينب من بينهم. عندما انتهى العدوان وعاد الجرحى من المستشفيات، اكتشف حسن أنّ 16 طفلًا وطفلة من هؤلاء قد استشهدوا، من بينهم شقيقته “حتى زينب خبّوا عليي إنّها استشهدت لأنّه الحكيم قلّهم ما تخبروه شي بيزعّل، ليتعافى”، وكذلك بينهم رقيّة صديقة طفولته التي ظنّها نائمة قربه في غرفة جثامين شهداء المجزرة “ما بقي إلّا أنا وغدير وعلي وحسن، من 19 ولد كنّا نلعب سوا بالحي”. يتذكّر حسن العيد الأوّل الذي تلا عدوان تموز في ذلك العام: “كان الحي فاضي، كنا نحن الأربعة بالطريق بس، ما في حدا.. كلّ أطفال الحي استشهدوا، صرنا ضايعين ما نعرف شو نلعب لحالنا”، يقول وهو يمسح دموعه: “الكل بيتفاجؤوا إنّي ما نسيت” يشرح، ليضيف “أعتقد أنّ ما حصل لا يمكن أن يُنسى، عشان هيك بفكّر كتير بأطفال فلسطين، وكيف بدها تكون حياتهم بعد إجرام إسرائيل، أنا بعرف الغصّتين، غصّة فقدان أختي، وكمان بفكر باللي فقدوا رفقاتهم بالحي وبالشارع وبالمدرسة”. وهو يعدّد الفقد الذي يتشاركه مع أطفال غزة، يتذكّر بيوتهم “نحن الحمدالله رجعنا ع بيتنا ولو متضرّر، هنّ ما بقى عندهن مكان يرجعوا له”.
بعد كلّ هذا أسأله “وليش ما نزحت اليوم؟” يشرد حسن قليلًا ويقول “قلت لأهلي انزحوا إنتو لأنّي خفت عليهم وع خيي عيسى، خفت إفقده متل زينب، بس أنا ما رح أترك”. والسبب؟ يشرح حسن: “المجزرة هي السبب، أنا ما رح أترك الأرض لإسرائيل، بدّي إبقى هون حتى لو ما قاتلت، بدّي ساعد، لو جبت مي للمحاصرين، أو اهتمّيت بالمرضى الباقيين، إذا ساعدت بالجرحى لا سمح الله إذا صار مجزرة، شو ما كان أحسن ما فلّ”. تمر دقيقة كان حسن يحاول فيها كبت غصته ودموعه التي لمعت في عينيه “عشان زينب ما بدّي توه، عشان كل رفقاتي لي راحوا معها بدّي قاوم قد ما بقدر، وعشاني أنا كمان، ع القليلة إذا حدا قالوا استشهد بتأكّد إذا بعده عايش عشان ما يندفن متل ما كان رح يصير معي”.
تنظر رباب إلى القبو الذي صار منزلًا بطابقين بعدما أعيد إعماره في 2006، ثم تؤكد على ما قاله حسن “إي ما رح نتوه، هيك قرّرنا، زوجي مقعد وأخته مقعدة، ما فينا ناخدهن ع بيوت مش مجهزة، وما بدنا نتبهدل”. تقول إنّها بعد نزوحها إثر مجزرة قانا، عرفت “ذلّ التهجير وإنّك تتشرّدي من بيتك، وقديش صعبة ع الشيخ (زوجها) يعيش بمحل مش مجهّز، رح نبقى هون”.
لا تخفي رباب أنّها خائفة جدًا من العدوان الحالي “المجزرة ما راحت ولا بتروح من بالي، خصوصًا رجعت عشتها مع أهل غزة، وما بنسى زينب، وحسن والدم ع وجهه وجروحه وكيف ضيّعته وكيف فكروه ميّت بيبكّيني كلّ ما فكرت فيه، جاراتي وجيراني والختايرة ورفقات أولادي لي استشهدوا كمان ببالي، وأنا كتير خايفة لأنّه قانا مستهدفة بالمجازر من الأولى للتانية”. ومع ذلك “ما رح نفلّ”. وكما المجزرة، لم تنس رباب الجوع ونقص ماء الشفة والاستخدام والحصار “بعد أسبوع من عدوان 2006، قصفت إسرائيل الطرقات وانحبَسنا”. كانت طائرة الـ “إم. كا” تقصف أي مدني يتحرّك في الضيعة “تخبّينا بالقبو” ليلًا، وحين كانت تظنّ أنّ الطائرة لن تراها، كانت رباب تخاطر بدخول منزلها “كنّا شي مئة شخص معظمهم مسنّين ومعوّقين وأطفال ونساء”. لم تكن تجرؤ على إضاءة شمعة “بيشوفوني وبيقصفوني”، تتلمّس في العتم مؤونتها وتحمل ما تصل إليه يداها “بس قديش بدها تكفّي المونة؟”. في الأيام العشرة الأخيرة ما قبل وقوع المجرزة، نفدت كلّ المؤن من المنازل القريبة “صرنا ننطر توصلنا شي ربطة خبز كلّ تلات أربع أيام، نقطّعها شقف صغيرة ونوزّعها ع الطّفالى، وكنا نحن نعيش ع المي”. ومع ذلك لن تغادر، “عرضوا علينا قرايبينا بيت بصور وما قبلنا، ما بدنا نترك بيتنا، ولي بدّو يصير يصير، التّيه عن البيت كمان قاسي وبشع، مش بس العدوان الإسرائيلي، قاتل الأطفال”. وحده خوفها على حسن، وشقيقه عيسى الذي أنجبته بعد استشهاد زينب يقلقها “كان حسن متعلق بزينب، وما قدر ينساها، ولمّن وعي عيسى خبره كل شي عنها، وصار عيسى يبكي مع حسن كل ما شاف صورة لزينب. فخبّيت كلّ صورها وفيديوهاتها من البيت”
إلى منزل في حي السلم في الضاحية الجنوبية، قدّمته لها عائلة من مارون الراس، نزحت فاطمة مواسي مع ابنتيها آية وزينب. كنت التقيت فاطمة بعد نزوحها خلال عدوان تموز 2006 في صيدا، مع طفلتيها اللتين وجدتهما اليوم صبيّتين جميلتين وقد صارت زينب في الجامعة. في أحد أحياء حي السلم الفقيرة حيث تتشابك أسلاك الكهرباء مع قساطل المياه فوق رؤوس المارة، أضأت هاتفي لأتمكّن من رؤية طريقي بين الزواريب وأتجنب الجرذان التي تقفز من حولي. وحين صعدت الدرج المكسّر وقرعت الجرس، فتحت لي فاطمة بوجهها “الصّبوح”: “ولك ما كبرتي يا فاطمة” بادرتها صادقة، وقد تخيّلتها أمامي في 2006، وكأنّ 17 عامًا لم تمر، “والله زمان، تفضّلي”، بادرتني.
على حصيرة بلاستيكية ممزّقة من أكثر من مكان، وثلاث فرشات اسفنجية جلست فاطمة مع ابنتيها. تدثرت النساء الثلاث بثلاثة أغطية، وُزّعت عليهنّ مع الفرش، بعدما سجّلن أسماءهنّ بين النازحين. أغطية هشّة لا تردّ برد الشتاء، فيما وبرها يغطي عباءة فاطمة التي لم تأت بغيرها من منزلها في منطقة العريض المحاذية لفلسطين في عيترون، بلدتها.
ذاقت فاطمة الأمرّين في عدوان تموز 2006. كانت آية في الثالثة من عمرها، فيما لم تكمل زينب عامها الخامس “رجعت حفّضهن وقتها لأنّه ما استرجي طلّعن من القبو لي تخبّينا فيه مع شي 80 شخص من عيترون”. وهي تتحدّث عن هروبها من طائرة “إم. كا” في حينها، تركض فاطمة وكأنّ الطائرة ما زالت تتربص بها. “رحت جيب مونة من البيت فكشفتني الطيارة”. خرجت من القبو يومها بعدما بكت طفلتاها جوعًا “قلت رح يموتوا من الجوع”. في طريق عودتها حلّقت فوقها طائرة “إم. كا”: “كنت حاملة كيس الطحين وآية بنتي”، حرصت على الطحين حرصها على آية “كتير خفت وصرت أركض” حتى أنّها نطقت الشهادتين تحسّبًا للموت. عندما عادت إلى القبو، طبخت العجين في الزيت وأطعمت كلّ أطفال القبو “مش بس آية وزينب”، بينما اكتفى البالغون بتبليل شفاههم بما يحصلون عليه من بئر قريبة يقصدونها مداورة ليلًا “وأوقات يشتد القصف بالليل وما حدا يسترجي يطلع لبرّا”. وفي ظلام القبو، حيث لم يكن أحد يجرؤ على إضاءة شرارة قداحة، بكت فاطمة كثيرًا، وعتبت على زوجها الذي توفي قبل 3 سنوات من العدوان وتركها مع طفلتين “الحمل كبير عليي”.
بعد وساطات لإخراج المحاصرين، تمكّن مسعفو الصليب الأحمر من الوصول إلى القبو بعد 23 يومًا من بدء العدوان. مشت فاطمة ومن معها وراء المسعفين ” ما قدروا يفوّتوا السيارات، مشينا ع بنت جبيل”. وهي ترى عيترون بعد إخراجها من القبو، بكت فاطمة كما لم تبك من قبل: “ريحة الموت كانت متلّاية الدني”. لم يوفّر الإسرائيليون يومها حتى الحيوانات: “الفطايس بالطرقات”. وفي بنت جبيل بكت مع المتطوّعين الذين بكوا منظر ابنتها: “كانت صفرا ومش قادرة توقف من الجوع والعقص آكل جسمها”. وهي تغادر عيترون تحمل صغيرتها وتسند الكبرى المنهارة، لم تصدّق فاطمة أنّها نجت: “لو تأخّروا خمس ساعات كنت متت مع البنات، كنت عم أرجف كل الوقت من الخوف”.
لكلّ هذا نزحت فاطمة اليوم في عدوان 2023: “من وقتها كتير بخاف”، تقول زينب، ابنتها، إنّها وآية كبرتا مع خوف والدتهما “أنا ما بتذكّر العدوان، بس عايشة ذيوله من 17 سنة عليها وعلينا”. تروي كيف أنّ أمها ما زالت لغاية اليوم تبالغ في تخزين المؤن “بتموّن لعيلة من 15 شخص ونحنا تلاتة”. سألها الصيدلي في عيترون “إنتو تلاتتكن بالبيت مرضى بنفس المرض؟”، لأنّ والدتها تطلب منه تأمين ثلاثة أدوية من النوع نفسه: “عايشة بخوف نتحاصر متل 2006 وننقطع من الدوا والأكل”. كيف لا تخاف فاطمة من انقطاع دوائها وهي انتكست صحّة قلبها خلال حصارها في قبو عيترون، وخضعت لعملية قلب مفتوح “ما بدي موت إذا ما عدت لقيت دوايي اليوم” تتدخّل فاطمة بعدما تضحك على “خبريات” زينب عنها. ومع ذلك لدى فاطمة مخطّط تعارضه ابنتها “اتصلت بشوفير الفان وسألته إذا عم يروح ع عيترون، بدي روح جيب شوية مونة لناكل”. وعندما تعترض زينب على قرارها “رح نروح معك أنا وآية إذا بتروحي، خلّي إسرائيل تقصفنا مع بعض”. تقول فاطمة إنّ مصاريف النزوح أرهقتها “ما عنّا مي سخنة لنتحمّم، وكلّ شي غالي هون، حتى مي بدنا نشتري لنشرب”. في عيترون تزرع شقيقتها فهدة خضار بعلية “ومناكل”، في عيترون تركت كل شيء بعدما وصل القصف إلى العريض حيث تسكن “بيتي مليان مونة، دفعت دم قلبي لعملتها”. والأهمّ هناك بيتها الذي بقيت سنوات طويلة تبنيه الحجر فوق الحجر “زوجي مات وما كان معمّر لنا بيت، وما عنّا أرض”. صارت تضمن (تستأجر) مع فهدة، شقيقتها، أراضٍي لتزرعا التبغ وبعض الخضار تعتاشان منها. وهي تتحدث عمّا تركته في عيترون يكتسي وجه فاطمة حزنًا عميقًا “كمان تركت ورداتي، ما بتعرفي قديش حلوين ومزيّنين مصطبة البيت، عندي قعدة حلوة بالعريض، بدك تزوريني بس تخلص الحرب وتقعدي تشوفي كلّ عيترون قدامك”. وهي تقول “بس تخلص الحرب”، يزداد حزن فاطمة “قولك رح تخلص؟ ومعقول تتوسّع وتوصل ع بيروت؟”، لتجيب نفسها “يا مشحرة يا أني وين بدي روح إذا وصلت لهون؟ إنت وين ساكنة؟ بركي منروح لعندك”. عندما أخبرت فاطمة أين أسكن اكتشفت انها تزور بيروت اليوم للمرة الأولى في حياتها “أني ما بعرف يعني وين، أني بحياتي ما جيت ع بيروت”. لم تزر فاطمة صيدا أيضا قبل عدوان تموز: “أنا ما طلعت من عيترون إلا لمن نزحت ع صيدا ب 2006 واليوم ع بيروت، الله يهدك يا إسرائيل”.
نشر هذا المقال في العدد 71 من مجلة المفكرة القانونية –