العالم العربي يحتاج الآن إلى الشعر أكثر من أي وقت مضى
الشاعر والسياسي اللبناني طراد حمادةالشاعر والسياسي اللبناني طراد حمادة
أيهما أقرب إليك حمادة السياسي أم الشاعر؟
لم أنقطع عن ممارسة الفعل السياسي في حياتي العامة. كنت مناضلاً ودخلت السجن لأسباب سياسية مرات عدة، وكتبت رواية «مشهد البحر» عن الحرب اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، وكتبت في فلسفة السياسة والتنمية والحوار والإعلام. كذلك اشتغلت في باريس في الصحافة، وشاركت في مؤتمرات دولية عدة للحوار العربي الأوروبي الأميركي... كذلك كتبت عن النظام الدولي الجديد ولي كتاب «مقاربة فلسفية عن الثورات العربية». كنت شاعراً ومقاوماً، وكاتباً مشتغلاً في الفلسفة وفي الصحافة، حتى شغلت منصب وزير في حكومتين من عام 2005 إلى عام 2008 وزيراً للزراعة ووزيراً للعمل، وأنكب الآن على كتابة تجربتي في الوزارة في كتاب يصدر قريباً إن شاء الله.
ماذا عن وجه الدعم أو القصور الذي أفادته تجربتك الإبداعية من المنصب الوزاري السابق؟
لا شك أن الشاعر عندي أثّر في السياسي، وليس العكس. مارست السياسة بأسلوب الصوفي والشاعر... وهذا الأمر أبيّنه في الكتاب ولكن شرحه هنا يطول. أرى نفسي شاعراً أولاً ثم تأتي الصفات الأخرى، رغم أن صفة السياسي تظهر أكثر من الشعر لآن الناس يهتمون بالسياسة، ولأنني كنت أنشط فيها فيما يخفّ نشاطي في الشعر. لا يمكن لوزير أن يكون في جمعية معينة لاعتبارات سياسية، ويأخذ النشاط السياسي وقته غالباً... لكن عموماً مارست السياسة في وجدان الشاعر وأخلاقه وعشقه.
البيئة والشعر الصوفي
يبدو تأثرك بالبيئة التي نشأت فيها، وهو ما يعكسه بعض قصائدك بشكل أو بآخر؟
لا شك أن للمكان أثراً في الإنسان لأنه يحيط به من كل جانب... أنا من «الهرمل» على منابع نهر العاصي، في شمال البقاع بين سلسلتي الجبال الشرقية والغربية. هذه الحضارة نهرية تقوم أساساً على ضفاف نهر العاصي، الأورنت، وهي عرفت ولادة أهم الثقافات الإنسانية من «أفاميا» موئل العرفان إلى «أنطاكية» ومدرستها الشهيرة... وفي هذه الحضارة أيضاً مدن حمص وحماة وتدمر وحلب والمعرة واللاذقية على الساحل السوري وصولاً إلى بعلبك في وادي البقاع. تقوم هذه الحضارة النهرية أساساً على ضفاف نهر العاصي، وعرفت كثيراً من الشعراء العظماء والصوفيين واللاهوتيين والفلاسفة. في شعري فصح عن عشقي لهذه البيئة في طبيعتها وحضارتها. أنا شاعر نهري مثل شعراء نهر النيل العظيم، وثمة مشترك بيئي ومعنوي ومعرفي ثقافي بيننا، لذلك يطربني شعراء حاضرة الأنهار. وأترك للنقاد التفصيل في دراسة أثر هذه البيئة في شعري وفي أدبي الروائي.
لماذا لجأت إلى كتابة الشعر الصوفي؟ وعرفته بأن من الصعب الوصول إلى تعريف جامع مانع له؟
في التقسيم التقليدي للعلوم يُعيَّن الشعر أحد الفنون الأدبية، والتصوف إحدى المدارس الفلسفية... لكنّ التجربتين الشعرية والصوفية تنهلان من مصادر مشتركة وتفصحان بواسطة مشتركة هي اللغة، وتجدان في موقفهما من مسائل الفكر والمعرفة والجمال والمختلف والمؤتلف والوجود والأنا والآخر والشيء ونقيضه، وتفصحان عن هذا التنوع في الساحات المعرفية والذوقية في الكتابة عن أحوال التجربتين.
والصوفي شاعر سواء نظم القول أو النثر، إذ يتفقان في أبعاد التجربة والإفصاح عنها بواسطة اللغة... والنص الصوفي في الأساس وجداني وليس بناء ميتافيزيقياً، وهو يستحوذ على قدر كبير من الشعرية. إنه قول شعري في الأساس... لكن الفلسفة استحوذت في اصطلاحها وطرائقها على النص الصوفي ونسبته إليها في مراحل لاحقة. يعود الآن النص الصوفي مجدداً إلى أصوله الشعرية والوجدية الوجودية الأولى في الأدب الصوفي العالمي المعاصر، وعندنا في الآداب العربية والإسلامية. في الحقيقة، تأثرت تجربتي الشعرية بالأبعاد الأدبية والفلسفية لهذه العودة إلى التصوّف كتعبير عن حب الخلق للحق... وفيه يمكن القول إن النص الصوفي استمرّ في ذاته محافظاً على أصله الشعري.
لماذا تربط بين التصوّف وبين الشعر، بمعنى أنك صرحت بأن الشعر هو أفضل وسيلة للتعبير عن حالات الصوفيّة والمتصوّفين؟
عرفت تجربتي الشعرية مراحل متعددة مرتبطة بما مرّت به من تطور معرفي. الشعر عندي على علاقة وثيقة في ثقافتي المعرفية، وهو في هذا المعنى تعبير عن تجربة وجودية، أي أنه يفصح عن الوجود وعن رؤيته... في البداية، درست اللغة العربية في الجامعة اللبنانية، وقرأت الشعر العربي الكلاسيكي من العصر الجاهلي إلى صدر الإسلام ثم الأموي فالعباسي، وكل مراحله الأخرى، كذلك الشعر الفرنسي الكلاسيكي، وبعدها تأثرت بتجربة مجلة «شعر» وقرأت شعراء عالميين في ترجمات إلى العربية والفرنسية من لغات عدة، تأثرت بالمدرسة السوريالية ثم الواقعية الاشتراكية، وبعدها الرمزية الجديدة. قرأت أيضاً في الشعر العربي المعاصر ولصلاح عبد الصبور، وأمل دنقل، وأدونيس، ووفيق صايغ، والماغوط، وفؤاد رفقة، وأنسي الحاج، وآخرين. فضلاً عن إليوت، وسان جون برس، وغوته، وناظم حكمت، وبول إيلوار، وبودلير، ورامبو، إلى جانب هوميروس، وشكسبير، وطاغور وسواهم. أدركت أنه لا يمكن لشاعر حقيقي إلا أن يكون شاعراً ميتافيزيقياً، وعليه ذهبت إلى دراسة الفلسفة في جامعة السوربون وأقمت في باريس 12 عاماً، وفيها اكتشفت الشعر الصوفي وقرأت شعراء الأدب الفارسي من عمر الخيام إلى سعدي الشيرازي... وفريد الدين العطار ومولوي ومحمد إقبال اللاهوري. واهتممت بالشعر الصوفي العالمي، وأصدرت أربعة دواوين، ورواية هي نتاج هذه المرحلة... وبعدها كتبت نصوصاً عرفانية في الأسفار المكية، وأكثر من 12 ديواناً في منحى صوفي شديد الحضور.
الرواية والفلسفة
كتبت الرواية، فهل يعُزى ذلك إلى أن الزمن كما يقُال لها، وهل تراجع الشعر؟
طالما قدمت الشعر على الرواية، وأعتقد كما غيري أن الشعر ديوان العرب وأنهم أفضل في الشعر من غيرهم. أذكر أنني شاركت من موقعي الصحافي في ندوة الرواية العربية في «معهد العالم العربي» في باريس، وكتبت أن الرواية العربية مستفادة من فن الرواية الغربية، وأن جائزة «نوبل» أعُطيت للرواية العربية بشخص الأديب نجيب محفوظ ولم تُمنح للشعر العربي، مع وجود شعراء عرب كبار مرشحين لها. في اختصار، كنت شاعراً لا يفكر في كتابة الرواية ولكن دراسة الفلسفة والتصوف حملتني إلى كتابتها... وهي عندي من أثر الدراسة الفلسفية والصوفية وتعمر بالاهتمام الفلسفي. صحيح أن الرواية تقدّمت الشعر في نهاية القرن العشرين، لكن يشهد الشعر نهوضاً جديداً ولا يزال حتى الآن ديوان العرب... ومع ذلك أنكب الآن على كتابة روايتين: «المعراج إلى قمة الرجال العشرة» و«شمس الأورنت». وفيها من الشعر والفلسفة الشيء الكثير.
المشهد الراهن
يرى طراد حمادة أن لبنان يشهد حركة ثقافية ناهضة ويقول: «أنا متفائل في مستقبل الشعراء اللبنانيين الشباب، ويوجد اتجاه صوفي شديد الحضور في أوساطهم... يعاني الشعر العربي المعاصر أهوال الحروب والهجرات وتراكم الآلام ولكنه يقاوم على عادته دائماً، وربما تأتي تجارب من تحت رماد النيران ودمار البنيان وآلام إنسان. ولبنان كغيره واحة للأدب والشعر ومتنفس للحرية والفكر... والغرب العربي واعد على مستوى الفلسفة والرواية». ويختم: «نحتاج إلى الشعر في الأزمنة الصعبة».