
*ميتافيزيقا عاشوراء ومصاديقها المعاصرة*
طراد حمادة
*في الثورات الكبرى التي تشكّل سُنّة من سنن التاريخ في دورة آدم، تتحقّق مصاديق عديدة مع حركة الزمان. حتى تمكّن الناظر إليها أن يدرك مدى العلاقة بين الأحداث المعاصرة وهذه السنن الإلهية، وقد بلغت أَوْجَها، ومثالها في ثورة الإمام الحسين واستشهاده مع أولاده وأصحابه في واقعة كربلاء.*
ولأن ثورة الإمام الحسين لا يمكن النفاذ إلى حقيقتها إلا ميتافيزيقياً، باعتبارها حركة في مدار الفعل النبوي واستمراراً له، تدخل من هذا الباب في السنن الإلهية للتاريخ، التي يمكن الرجوع إليها لإدراك الأحداث والوقائع المرتبطة بها، والتي تظهر واحدة من متعلقاتها وآثارها في الساحة التاريخية على امتدادها في الزمان حتى نهاية دورة خلافة آدم في الأرض وظهور الإمام صاحب الولاية المحمدية الخاصة.
وعليه، وفق ما تأسّس عندنا من مفهوم لميتافيزيقا عاشوراء، فإن مصاديقها تُظهِر مدى قرب الحركات والثورات منها، ومستوى تعلّقها وآثارها وبيان روابط مظاهرها. فنجد في ما حدث في الحرب الأخيرة في غزة ولبنان وإيران مع العدو الصهيوني، واحداً من المصاديق التاريخية لثورة الإمام الحسين عليه السلام. إنها أحدث حرب في الدفاع عن الحق، هي الأكثر قرباً وتعلّقاً وسنّةً ونموذجاً ومصداقاً لما يمكن إجماله في الأبعاد الإلهية والإنسانية لميتافيزيقا عاشوراء.
عليه، فإنّ أكثر مظاهر هذا التعلّق كشفت عن نفسها في غزة على مستوى تقديم التضحيات والصبر والصمود والثبات على الحق. وقد نال من أهل غزة بعض ما حصل في كربلاء مع أهل الحسين وأصحابه. وظهر ما يحصل في غزة من حرب إبادة صورة محقّقة لانتصار الدم على السيف، ومواجهة الإبادة الجماعية بالصبر والصمود والقدرة العالية على تقديم التضحيات. حتى يمكن القول إن القرب بين كربلاء وغزة «صلة استسرارية» في المكان وفي التحقّق الوجودي للإنسان. وهذه مسألة أُشيرَ إليها بالإشارة وصُرِّح عنها بالعبارة. وهي صادقة ناطقة لا تحتاج إلى إيضاح أو دليل.
الحرب في لبنان في مراحلها المتدرّجة، من حرب الإسناد إلى حرب «أولي البأس» ما بعد العشرة الأخيرة من أيلول، صورة واضحة في مصداقها الكربلائي. ومظهر من مظاهر ميتافيزيقا عاشوراء. لقد تمّ الإقدام على ساحة هذه الحرب كما حصل في إقدام الحسين إلى كربلاء؛ لإعلاء كلمة الله في الأرض ومواجهة الظلم والطغيان والاستبداد والعدوان دفاعاً عن حق الإنسان في الحياة وفي الكرامة والحرية. كانت قاعدة مقاومة الظالم والعدوان ونصرة أهل الحق ودين الحق، هي المحرّك الأساسي للإقدام إلى ساحة هذه الحرب. وقد حملت في روحها كل متعلّقات العشق الحسيني.
إنّ أكثر مظاهر هذا التعلّق كشفت عن نفسها في غزة على مستوى تقديم التضحيات والصبر والصمود والثبات على الحق
إنّ كلمة الحسين، في أبعادها المعنوية كصورة عن الحقيقة المحمدية، متجسّدة في أبعاد حرب لبنان. «ما تركناك يا حسين»، وهو شعار هذا العام لإحياء عاشوراء، كان في الواقع تعبيراً عن الوقوف إلى جانب الحق وضد الظلم، وتجسيداً لمبادئ ثورة الإمام الحسين، ومصداقاً في حركة الزمان لسنتها الإلهية. «ما تركناك يا حسين» يعني أننا لم نترك فلسطين وحدها في مواجهة العدوان، وأن نصرتها وإسنادها كانا في أصل قواعد المصداق الحسيني. وهذا ما تحقّق على وجهه الأكمل.
حتى يمكن اعتبار هذه الحرب، في أبعادها، مستفادة من قواعد الحرب في مواجهة الطغيان والعدوان في حكومة يزيد وكشف باطل هذه السلطة الجائرة المستولية على عالم الإسلام، والتي تمثّل احتلالاً واغتصاباً لأرض الإسلام وقواعد الدين الحنيف وانحرافاً صريحاً عن خط الخلافة والولاية اللتين اتفق عليهما المسلمون، والتي نصّت عليها الأصول القرآنية وسيرة النبي والصالحين، وصار أن انقلب عليها الظالمون المغتصبون، وكان للحسين أن يخرج في مواجهتهم طلباً للإصلاح في أمّة جدّه. وأمّة جدّ الحسين خاتم الأنبياء محمد بن عبدالله، هي الإنسانية جمعاء بكل شعوبها وأممها وبلدانها وأقطارها وقارّاتها وجهاتها. الحسين كان يطلب الإصلاح في نظام العالم أجمع والإنسانية على تعدّد جهاتها جمعاء.
التضحيات العظيمة في حرب لبنان كانت نبتة من زرع عاشوراء. القيادة الشجاعة الحكيمة كانت من تراث وتعاليم الحسين ووفق قواعد العشق الحسيني وعلى سنّة جدّ الحسين محمد (ص). والحديث في أبعادها يطول ولكنها تملك أن تكون المصداق المعاصر للثورة الحسينية.
في الحرب على إيران برز الحق كلّه إلى الباطل كلّه ووصلنا إلى أَوْجِ الأحداث في حقيقة المصداق الحسيني. وهنا تبرز ناحية أن انتصار الحسين المعنوي في الساحة التاريخية له مصداقه في انتصار حقيقي في ساحة الصراع المعاصر. باعتبار أن هذا التعلّق الحسيني عصيّ على كل انكسار، وأنه يحقّق الفوز في حركة الصراع، لأن الإنسانية جمعاء تتقدّم إلى تحقيق أهداف ثورة الإمام الحسين في حركة الروح الإنساني في التاريخ. مَن يُرِدْ أن يبحث عن سرّ قوّة إيران يلزمْ أن ينظر في هذه الناحية من ارتباط الثورة الإسلامة في إيران مع حركة الإمام الحسين في التاريخ.
«كل ما لدينا هو من بركات عاشوراء»، يقول الإمام الخميني. وبناء مجتمع على قواعد العشق الحسيني، وهو حب إلهي، واتّباع الرسول وأهل بيته الأطهار، هو عشق واتّباع وسنّة ومصداق متحقّق لحركة الأنبياء في الساحة التاريخية للإنسانية جمعاء.
هذه واردة قلبية يمكن أن تفتح الآفاق لكتابة إبداعية في إنتاج الأفكار حول «العلاقة الاستسرارية» بين إيران المعاصرة وثورة الإمام الحسين التي لا يمكن أن يُمحى ذكرها في التاريخ، والمستمرة في سيرها وسلوكها للوصول إلى دولة القسط والعدل في عالم شغله الظلم والجور.
هذه المصاديق الثلاثة لميتافيزيقا عاشوراء في الساحة التاريخية مجال لاشتغال الفكر الإنساني عليها لإدراك إلى أين يكمل مسار هذا العالم في تحقيق خلاص الإنسانية جمعاء.
* كاتب ووزير سابق
المصدر:جريدة الأخبار