أسلمة العلوم شرط للحضارة القادمة
محمد مهدي كوراني
بعيداً عن الجدليات بشأن إمكانية أسلمة العلوم الانسانية أو أدلجتها أو تطعيمها أو روحنتها أو تأصيلها الثقافي وهلم جرى من المصطلحات، يجب أن تبقى العلوم الإنسانية في خدمة الإنسان والأنسانية. والإنسانية هي كل شيء يميزنا كبشر عن الحيوانات. فنقصد من الإسلامية في مفهموم العلوم الإنسانية الإسلامية هو كل المعايير وآليات العمل التي تبقي هذه العلوم في إطارها الإنساني وفي خدمة الإنسان والإنسانية.
ملاحظات خطيرة حول العلوم الانسانية الحديثة :
اولا : العلوم الانسانية باعتراف جميع العلماء أنفسهم ليست كلها تفسير الوقائع بل هناك احكام مسبقة أيضاً، غير أن بعض العلوم والاختصاصات هي ليست علوم بل مجموعة تجارب بشرية جميلة.
ثانيا : أتباع ادوات العلوم التجربية في العلوم الانسانية لها نتائج علمية كبيرة لكن في الواقع في خلفية هذه الأدات هناك افتراض خطير بأن العلوم الإنسانية هي علوم مادية لأن الادوات العلوم التجربية هي أدوات مادية، حسية وهذا من حيث اللاوعي يشكل خطر كبيرا على الانسانية وعلى هذه العلوم.
ثالثا : كل عالم يدين بدين وعقيدة معينة، عندما يتعامل علماء الانسانيات والنظريات على أن لا يوجد دين حق ودين باطل وكل الديانات سواسية، ففي الخلفية يوجد افتراض خطير جدا وهو أن الديانات السماوية السابقة كلها باطل والمعتقدات الجديدة العشوائية لم يشمله التناقضات الموجودة في الديانات السماوية.
رابعا : هناك نقد مهم جدا لكل العلوم الانسانية والنظرية و انتقادات كبيرة، اذا توجهنا اليها و يجب ذلك يفقد كل هذه العلوم مصداقيتها المطلقة.
خامساً : ما دام هناك ليس بديل لهذه العلوم الانسانية الحالية والنظرية لا يمكن التخلي عنها.
سادساً : نحن كمسلمين كل شيء متكامل وخال من النقص نعتبره اسلاميا، لذلك عندما ننسب الاسلام الي علم أو صفة انسانية أو عمل بشري، هدفنا هو ان نشير الى كماله وخلوه من النقص وتناقضات التي موجودة في نظائرها
سابعا : أهم عقبة في مناقشة هذا الموضوع هو أن ايجابيات العلوم الانسانية الغربية قد أعمت عقول وقلوبنا ولم يعد بامكان احد مناقشة نقاط ضعف الخطيرة لهذه العلوم والبحث عن البديل لها وبالاساس هذه الإيجابيات منفوخة بالسلطة والمال والاعلام .
ثامنا : يجب ملاحظة عدة امور لكي يبقي العلوم الانسانية، علوما إنسانية
لا شك في أن القضية الأساس عندي أنا كشخص ذو ديانة خاصة وذو مذهب خاص أن أبحث عن العلوم الانسانية البديلة تخلو من هذه النقاط الضعف, من خلال معتقداتي بأن تكون كلمة الله هي العليا و أن الإسلام يمثل الحق والحقيقة في الدنيا ويمثل رسالة خالق الكون وخالق الفطرة الانسانية التي نريد اليوم اكتشاف معادلاتها ولايتحقق ذلك الا عند تحقق العدالة العالمية من خلال الثأر لدم المقتول بكربلاء, والتي هي بدورها لا تتحقق الا بظهور حقيقة قيام الحجة (عج) ودولة الحق وهي المقصودة بالأية الكريمة في القرأن الكريم (والله متم نوره ولو كره الكافرون). فنحن نؤمن بأن دولة الحق تؤدي إلى الحضارة الإسلامية الحقيقية والمثالية والتي هي مختلفة عن كل الحضارات التي شهدها العالم. والحضارة حتى تكون حضارة يجب أن تمتد ألف عام على الأقل، لذلك البعض يقول بأن الحضارة الغربية لم تكتمل امتحاناتها وإختباراتها لنسميها حضارة! فكان من الجدير أن نتعرف على الحضارة الإسلامية... و ايضا علينا أن نكتشف ما هي العلوم المعتمدة في مراحل قبل تحقيق "الحضارة المشرقة المستدامة" .
إذا أردنا تعريف الحضارة فذلك يتم إما بوصفها أو بوصف العلوم فيها. وصف الحضارات بأوصافها المثالية، تدخلنا في عالم الخيال والمجاز ولعل في عالم الأدب والسرد الأدبي وربما في الإدعاءات المتبادلة، أما وصف الحضارة بوصف العلوم فيها أمر واقعي لإنه يدل على الطرق والمسير الذي نسير فيه بتطور الأشخاص و بتطور المجتمع حتى نصل في النهاية إلى المقصد. لذلك هناك علاقة وثيقة بين الحضارة الإسلامية المثالية وبين وصف العلوم الإنسانية من حصر الحضارة ومن هذا المنطلق دخلنا في موضوع "العلوم الإنسانية الإسلامية"
كما للعلوم الاخرى متخصصين وعلماء، لا يسمحون للآخرين التدخل في كيانهم, وللدين علماء و عرفاء ومراجع وراسخون في العلم يجدون العلم غير قادر عن الخروج عن عالم المادة، فلذلك "علاقة العلم والدين" موضوع تخصصي ومعقد وقد يجده البعض مستحيل لذلك يلجأ هذا البعض الى مصطلحات مثل التطعيم والتأصيل الديني والثقافي هروبا من هذا الواقع، لكن إذا صرّح العالم بالعلوم العلمية فكرة دينية علمية لا تتعارض مع مبادئ الدين و لم يحكم عليها علماء الدين بأنها متعارضة ولو كانت غير متعارفة فتصبح فكرة "علمية – دينية"، و كذلك علماء الدين اذا قدموا فكرة علمية لا تتعارض مع مبادئ العلم، و لم يستطع علماء الاختصاص أن يعتبروها متعارضة مع مبادئهم الاساسية، فهي تصبح فكرة "دينية – علمية".
لذلك هناك الكثير من الكتابات حول العلوم الانسانية الاسلامية، تفتقد لهذه المعايير فهي مجرد اسقاطات لنصوص دينية على النصوص الجامعية والأكادمية ، قل ما تجد كتابات علوم انسانية اسلامية يمكن الاعجاب بها من هذه الناحية.
عند استشارة بعض العلماء والعرفاء الذين قدموا لنا بعض المفاهيم الدينية غير المتعارضة مع العلم نصحونا بضرورة الاهتمام بعدة معايير فكرية وعدة مفاهيم دينية - علمية، لتبقى العلوم الانسانية علوما في خدمة الإنسان والإنسانية ولا شك أن ليس هناك عالم يعارض هذه الفكرة ، وهذه الآليات لكي لاتنحرف و لا تنجرف هذه العلوم لما يضر البشرية و تنزله لمستوى الحيوانية، وصولا الى الحضارة الاسلامية العلمية..
تاسعا : الحضارة الاسلامية شرط لظهور العلوم الانسانية الاسلامية بكامل تجلياته
الغاية والهدف هي دائما تحفيز وتحريك البشرية للجهد وبذل التضحية والنشاط والعمل، و من هذا المنطلق نجد بأن "استمرارية المقاومة" و استمرارية نهج المقاومة في ما وراء حدود المذهب، و حدود الدين وحدود الوطن وثغور الشعوب، مرتبطة بشكل وثيق في تبيين الحضارة الإسلامية، بعيدا عن المسائل الخلافية في الأديان والمذاهب:
-اولا : على العدو أن يعرف على ماذا نقاتلهم؟
-ثانيا : الصديق والحليف والرفيق والمناضل والمجاهد يجب أن يعرف إلى ما نطمح؟
لذلك تتكرر وصف الجنة والنار والحور والنور والحسان في القرآن الكريم لأنها ثمن الجهد ومحرك للعمل و باعث للدوافع فتذكروا يا أولى الألباب.
ومن هذا المنطلق لا يمكن تحفيز النفوس وتحريك الدوافع البشرية من مختلف المناهل والمذاهب والطوائف، للمقاومة والجهاد والتضحية والثورة الا من خلال وصف الحضارة الإسلامية المثالية بالعلوم الإنسانية الإلهية و أن لدى هذه المدرسة والمنهج مشروعا حضارياً كبيرا ينطلق من الثورة والمقاومة والجهاد لكي يصل الى حضارة علمية متكاملة متطورة إنسانية، مثالية...
وصفنا للعلوم الإنسانية الإسلامية يجب أن يوضح للقاصي والداني وللمؤمن وغير المؤمن، أسباب فشل جميع الحضارات بما فيها الحضارة الغربية المتوحشة، التي سقطت في إمتحان الإنسانية بعد مجيء هتلر و ترامب وقبلهم.
كما إنه يجب أن يوضح للمؤمن وغير المؤمن أسباب فشل ظهور نتائج الإسلام الحقيقي بين الأمة الإسلامية خلال ألف عام من الحكم و تداول السلطة بين الأمويين والعباسيين والعثمانيين والمماليك و النهضة العلمانية في البلاد الإسلامية .
عاشرا : آليات عمل ومن ثم معايير لفهم العلوم الإنسانية الإسلامية:
1)كما قلنا ادخال المفاهيم الاسلامية الى هذه العلوم ضرورية ولكنها ليست كافية ونحن لا نريد في هذه العجالة إعادة صياغة هذه العلوم كلها بتفاصيلها الكاملة لأنها مسألة اختصاصية، لكن من خلال عرض "مفاهيم اسلامية في هذه العلوم" من منطلق اسلامي، نريد أن نفتح آفاقا جديدة للمتخصصين والعلماء والقراء والباحثين و في هذا الإطار نستند على صحة هذه المفاهيم بأقوال العلماء والمتخصصين أنفسهم حول هذه العلوم ونتترك المجال لكم للتفكير والتدبر والإيمان بإمكانية إنشاء "حضارة مشرقة مستدامة" بحسب هذه المفاهيم والرؤى الحديثة.
2)من هذا المنطلق يتم إدخال عناصرعدة للعلوم الإنسانية كآليات عمل لتنقيحها وتجريدها من الشوائب، أهمها إدخال ذهنية وروحية "الإيمان بالغيب" في العلوم الإنسانية فيعترف الإنسان حينها بتواضعه أمام حقائق وجودية كبرى لأن الإيمان بالغيب هو إذعان بالجهل والنقص النسبيين والدائميين في البشر، رغم اعتزازنا بنعمة العقل والتدبير والتحليل ، ليستمر التكامل و نصل الى قمم الكمال.
3)آلية العمل الثانية هي استذكار "مفهوم التوحيد" وأن هناك مبدأ مجهول علميا للبشرية في كل العلوم، فادخال مفهوم التوحيد في العلوم الإنسانية ليس مجرد مسألة نظرية عقائدية مذهبية و ربما عنصرية، بل هو عبارة عن آلية عمل تحدد لنا مكانة العلوم الإنسانية فيما بينها وتربط العلوم مع بعضها البعض وتحدد لنا أولويات مواضيعها وحدود وثغور العلوم فيما بينها، لكي نبتعد كما قلنا في البداية عن الإنجراف والإنحراف لما يضرّ بالإنسان والإنسانية . عندما يكون المطلوب استذكار مفاهيم تجريدية، فهذا الأمر لا ينحصر على المسلمين والموحدين بل هي حالة اشكالية جدلية تفيد جميع البشر من كل المناهل حتى الملحدين والطبيعيين والوجوديين. فمثلا يصبح علم التفكير الصحيح أو المنطق له اولوية كبرى، ثم علم الفلسفة والتحليل, ثم علم الاقتصاد ثم علم الإدارة ثم علم السياسة والعدالة وقبلها علم الالتزام بالقانون بشعبها والتقوى العملي بالحفاظ على مصلحة الإنسان والإنسانية.
4)العنصر الثالث الذي يجب مراعاته في العلوم الإنسانية هو مبدأ الآخرة والموت والحياة ما بعد الموت المحتملة علمياً". العلوم الإنسانية هي علوم في خدمة الإنسان والإنسانية والإنسان قد يرحل عن هذا العالم في أي لحظة، لذلك كنا من أهل الإيمان بيوم الحشر أو لم نكن علينا أن نستذكر هذا المفهوم، فهو يجب أن يكون "هاجس البشرية العظمى" و كذلك أن نعيش هاجس الموت في العلوم الإنسانية هو من أهم الحقائق الوجودية، مجرد التفكير بهذا الهاجس عند دراستنا لأي علم و موضوع علمي، يبقي هذه العلوم في إطارها الصحيح ، فإذا كانت العلوم الإنسانية هي من أجل الإنسان والإنسانية، فالأمر الوحيد الذي يمنع التدني والسقوط في مفاهيم الحيوانية والشهوانية والغرائزية هو أن يكون هذا الهاجس المنطقي العلمي دائما نصب أعيننا ، وهذا ليس أمر خيالي، مجازي، عاطفي بل هو من الأصول العلمية العملية. فلذلك فكرة الموت والمعاد و الحياة ما بعد الآخرة هنا ليست حالة عقائدية تخص المسلمين والموحدين بل هي حالة جدلية تخص جميع البشرية، وتعالج العجز الإنساني أمام موجود آخر. فالعلوم الإنسانية الإسلامية في ظل النزعات الحيوانية المتوحشة في تاريخ الحضارات تصبح ضرورة حياتية علمية وفكرية.
5)نشأة العلوم بين المثالية والواقعية وبين الطريقية والغاية النهائية وأيضا تطوير العلوم بين المثالثة والواقعية وبين الطريقية والغاية النهائية كلاهما موضوع مهم ويجب ايجاى تفسير لها في المنظور الاسلامي.
6)المناخ المناسب لنشأة مناسبة للعلوم و المناخ المناسب لتطوير مناسب للعلوم ليبقى العلوم الانساني انسانيا هي أهم من بعض التعديلات على العلوم، مثل حذف بعض الاتجاهات في هذه العلوم التي تتعارض مع حقيقة العلم و روح الانسانية والتي تتجلي في الدين المحمدي الاصيل افضل من أي مناخ آخر.
7)العلوم الانسانية الاسلامية عندنا هي نفسها العلوم الانسانية المثالية
لا يمكن التخلي عن العلوم الغربية خاصة العلوم التجربية والتقنية و حتي العلوم الطبية رغم انتقادنا الكبير على اتجاهاتها المضرة وغير الانسانية ولا يمكن التخلي كلياً عن العلوم الانسانية العصرية والغربية رغم انتقاداتنا الكثيرة والمصيرية عليها لأن جميع هذه العلوم نتاج الجهد الجنس البشري والعقل البشري و هي تكملة ما أنتجه العلماء المسلمين وقبلها علماء روما والمسيحيين الاصليين و هذا ما يثبتها فيما بعد نظرية الولاية والبيئة المثالية التي تنتجها نظرية الولاية وتسمح بتطوير العلوم بطريقة لاتضرّ بالانسانية ولا بالعقل البشري ولا حريته بجميع أنواعه.